دلــــــــــة



كان شغف قيادة السيارة يلاحقني منذ الصغر، حيث ارتبط النضج بالقيادة لدي، وقد تعلمتها في المتوسط كما تعلمها أصدقائي وزملائي من أسناني، وكانت بالفعل تجربة عظيمة فلم يبذل والدي بتعليمي إلا شيئاً يسير، فأنا متقن لمعظم أمورِ القيادة، بالإضافة أن سيارتنا آنذاك هي بناقل الحركة الآلي (قير أوتماتكيك).

رغم اتقاني القيادة إلا أن رعب نقاط التفتيش يتفشى في ذهني، ونظرات الشك تساورني ما إن أرى سيارة مرور، أو دوريات أمنية، وذلك لعدم حملي لرخصة قيادة، وكوني صغيراً عليها، فلم يكن عمري قد تجاوز السادسة عشرة حينما أوكل أبي لي جميع صلاحيات القيادة.

حينما قدت المازدا – سيارتي التي اشتراها لي والدي – لم أحمل رخصة قيادة بعد، ولعل تلك ليست بمشكلة، فمعظم نقاط التفتيش بالمجمعة تتجاوز عنك خصيصاً إذا كنت مع أهلك وعائلتك، فهم يتفهمون ضرورة القيادة، إلا أن والدي قد وجهني إلى مغامرة بالرغم من جمالها إلا أنها مخاطرة شديدة، حيث أمرني بقيادة عائلتي إلى المدينة المنورة، والتي تبعد أكثر من 600 كلم عن المجمعة، وحتماً سيكون هناك أكثر من 6 نقاط تفتيش خلال هذه الرحلة، مع ذلك عزم على أن انطلق، فكانت رحلة موفقة إلا أن تكلفتها الإجمالية زيدت 500 ريال، بسبب مخالفة عدم حمل رخصة، التي للأسف حصلت عليها فلم يكن رجال أمن منطقة المدينة المنورة متفهمين كما هم لدينا بالمجمعة.

ما إن بلغت السابعة عشر، حتى أصبحت مستحقاً لاستخراج تصريح قيادة وهو مشابهة للرخصة، إلا أنه اشبه باستثناء بحيث أن الرخصة تشترط عمر الثمانية عشر، وبالفعل توجهت إلى دلة – مدرسة تعليم القيادة – والتي تقع بآخر الطريق المؤدي إلى بلدة حرمة شمال المجمعة تقريباً، ولعلي أعبر امتعاضي هنا فدلة لم تكن تقبل إلا الكاش بالرغم ان مبلغ التدريب 500 ريال، وبعض الكسور، وذلك قرار أناني منهم.

لسوء حظي تم إصدار قرار جديد، يجبر جميع من يدرس بـدلة بإكمال 30 ساعة تدريبية مقسمة على 10 أيام، إلا أنه قرار مجحف لي خصوصاً أن لدي ما لا يقل عن 3 سنوات خبرة في القيادة، لذلك توجهت إلى كل من نعرف ونملك من واسطات، ولم يفد ذلك شيئاً، فالقرار لم يمضِ على تطبيقه إلا أسابيع، ولا أظن أن الواسطات ستستطيع الحيال دونه خلال هذه الفترة الوجيزة.

توكلت على الله، والتحقت بـدلة، وأظني كنت من أوائل الملتحقين بها من زملائي الطلاب بالصف الثاني ثانوي، حيث لم يحصل على الترخيص غير طالب، أو طالبين من صفنا. كان منظر مدرسة دلة غريباً، فالمدربين يرتدون ملابس أطباء فما معنى أن يلبس المدرب كما يلبس العاملين في المختبرات، أو كما يمسى ب"لاب كوت"، كانت دلة تفتقر لسيارات ناقل الحركة الآلي، وبذلك كان لزاماً علي تعلم ناقل الحركة اليدوي، والذي قد مارسته مسبقاً في سيارة ابن عمتي الهايلوكس وأظني قد "نتعت" بها عدة مرات قبل أن اخجل واسلم المفتاح لابن عمتي.

ووقفت في اليوم الأول بـدلة مع العديد من الطلبة المتنوعين بالأعمار، والأحجام وكذلك الجنسيات. لم أتعرف على أحد إلا زميلاً بالثانوي، والذي لم أكن أعرف اسمه ولا أظني قد تحدثت معه طيلة دراستنا، ولعل ذلك في بادئ الأمر أربكني فالمنطقة لا يغطيها الإنترنت ولدي 3 ساعات من الممل في وجهة نظري.

استهل مدرب من الجنسية المصرية المقدمة المتبذلة لبرنامج دلة التدريبي، وحينها لم يتوقف عقلي على التفكير بما هي أهمية "اللاب كوت" الذي يرتديه فحقاً كان ذلك أكبر لغز لي، ومضت السنوات دون أن تجيب عليه، تحدث المدرب عن أهمية فهم لوائح وإرشادات الطريق وسلمنا ورقة A3 تحتوي على إرشادات، ومعلومات الطريق واخبرنا أن هناك اختبارين اختبار عملي للقيادة، واختبار نظري ستأتي أسئلته من هذه الورقة، وفي بادئ الأمر فكرت كم كلفت طباعة هذه الورقة، وياله من كرم تسليمنا ورقة بتلك الجودة إلا أني تذكرت الخمس مئة ريال التي دفعتها مسبقاً فوجدت أني خُدعت فلا يوجد ماء، ولا حتى مشروبات، أو انترنت، فجعلت أنيسي الوحيد هي الخيالات والهواجيس التي لطالما كانت مهرباً ومنفى من الحصص الدراسية.

فجأة شاهدت الجميع قائمين وهامين بالخروج فصحوت من خيالاتي واتجهت معهم جاهلاً حتى خرجنا للساحة، وهنا التدريب العملي للقيادة كانت هنالك أكثر من سيارة كامري موديل 2012 على حسب ظني، وتم تقسيمنا إلى من يعرف ولا يعرف قيادة ناقل الحركة اليدوي، وكنا أقلية أمام الكم الهائل لا اذكر من معي ولكني أذكر أن المدرب كان هندي الجنسية، وكالعادة يلبس "لاب كوت" وانطلق بي إلى الكامري، وبدأ يعلمني القيادة بناقل الحركة اليدوي حيث جعلني راكباً مع احد المتدربين وهكذا بدأت أتعلم.

كانت رحلة التدريب مكونة من تشغيل السيارة، ثم الانطلاق بها بين المنعطفات، ثم التوقف عند إشارة مرور، وبعد ذلك الدخول إلى تقاطع، ودوار، ثم ركن السيارة في موقف طولية، وحيث كانت أكبر تحدي للجميع عداي فقد كان الناقل اليدوي هو التحدي الأكبر، وكذلك أنا متقن لكيفية ركن السيارة طولياً فلم تكن مشكلة.

مضت الأيام ووجدت أني كونت علاقة مع العديد من المتدربين منهم هندي ويمني، وأناس من جنسيات متنوعة حيث كانوا يعودون معي إلى المجمعة إذا خرجنا، ولكل منهم قصة لعل أغربها زميلي اليمني حيث كان أكبر مني بكثير، ولم يكن يحمل رخصة، ويقود سطحى في الخط السريع، وحقيقة رأيتهم ضارباً بجميع المحاذير، وحتى القوانين، فلا رخصة للقيادة ولا رخصة للعمل، وحتى السطحى ملكه كانت متهالكة وقد عرض علي قيادتها لكي أتعلم على ناقل الحركة اليدوي، فشكرته واعتذرت بكل أدب فلن أخطار بقيادة مركبة خطيرة كتلك، كان يروي لي أحاديثه ومغامراته في الطريق السريع، ومشاكله مع أمن الطرق والمرور وكيف يقنعهم تارة بالعدول عن مخالفته، وتارةً كيف هم رجل الأمن بسحب السطحى منه إلى "الحجز" وزميلي الثاني كان هندي الجنسية يعمل في المستشفى لا أعلم أهمية رخصة القيادة له، فهو لا يرغب بشراء سيارة لعله ينوي تغيير وظيفته إلى سائق.

مضى الأسبوعان بسرعة فوجدت نفسي بيوم الاختبار النهائي، وأنا على أتم الاستعداد إلا أني لم أذاكر للاختبار النظري. وصلت ووجدت جمعاً غفيراً من الناس، ولم اتعرف على زملائي، وقفت بالصف الأول حيث أصبحت ثالث المختبرين واجتزت الاختبار العملي بنجاح، ثم انتقلت للاختبار النظري، فحمدت الله أني لم اذاكر، فمجرد دخولي شرح لي رجل الأمن كيفية الاختبار، وأجاب على أول ثلاث أسئلة منه، ثم أخبرني أن أطلب مساعدته، في حال عدم مقدرتي على الإجابة، وبذلك انتهى تدريبي في دلة.

كانت رحلة مملة دراسياً إلا أنها امتلأت بالمغامرات وبمن تعرفت عليهم. انقطعت جميع سبل التواصل بيننا وأشك أني سأتعرف عليهم إن شاهدتهم بالمستقبل.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انتهى عصر البرمجة؟!

تقرير عن معرض المدن الذكية بالعاصمة الرياض 2024

صورتي
صالح الحقيل
المجمعة, الرياض, Saudi Arabia
باحث عن المعرفة، عالم بيانات وقارئ متواضع، وذو قلم كسول. مهتم بالاقتصاد والتقنية. تغريداتي ما هي إلا إنعكاس لآرائي ووجهات نظري الخاصة.