وعثاء السفر

    أمسك جواله متصفحاً ما استجد أثناء نومه من أحداث، فوقعت عيناه على رسالة من والده، رابط موقع على الخريطة لمسجد يبعد ٦٠٠ كيلومتر عن مكانه! لم يكن هنالك أدنى تفصيل لماهية هذه الرسالة، تراءى لصالح شك بأن ما وصله من والده له، علاقة برحلته للعمرة مما جعله يغرق في العديد من التفسيرات لحقيقة ما وصله، فآثر قطع الشك بالقين بالاتصال بوالده، وما إن أجاب والدُه عليه، طلب منه القدوم حالاً إلى ذاك الموقع لاصطحابه، فقد انقطع السبيل به في الطريق السريع لظرفٍ ما، في هذه الأثناء كان محمد أخو صالح يستمع للمكالمة، ولاحظ تردد أخيه بالإجابة ففسر ذلك بخوفه من اختباره الذي سيحل بعد يومين، فقرر محمد إجابة والده باستعداده لقيادة هذه الرحلة، لحظتها تأمل صالح الموقف فوجد صعوبة ذهاب أخيه لرحلة ستمتد أكثر من ١٤ ساعة من الذهاب والعودة فحزم أمره مقرراً مؤازرة أخيه في نجدة والدهم.

    انطلقا بالسيارة قاصدين طريق مكة المكرمة القديم في جو صحو، وقطعا الطريق متبادلين أطراف الحديث والاستماع لبعض اللقاءات الصوتية التي تسمى ب"بودكاست"؛ لحرق وقت هذه الرحلة الطويلة، كان من الجلي لكليهما سوء الطريق القديم، حيث كان طريقاً ذا مسارٍ واحد، مما جعل القيادة فيه متعبة ومنهكة، ناهيك عن الحفر وعوامل التعرية التي مسخت ملامح الأزفلت فيه، استمرا بالقيادة حتى رأيا غروب الشمس ولكن لم تبدأ مغامرة الأخوين بعد.

    ما إن حل المساء حتى بدأت السماء تبرق وترعد، ولعل ذلك في بادئه قد أضفى على الرحلة شيئاً من المغامرة والمتعة، ولكن تلك المتعة لم تدم، فبعد برهة من الزمن أصبح حس المغامرة مربكاً للأخوين فقد تحولت زخات المطر الفاتنة إلى عاصفة مطرية تهب بشكل مرعب في طريقٍ مليءٍ بالحفر والتعرجات، مما جعل القيادة فيه جحيماً لا يحتمل، قرأ صالح في عيني أخيه الخوف من فقدان السيطرة على السيارة في ظل هذا الجو، ولكنه آثر الوثوق بقيادة أخيه فلا أمل له غير ذلك، ورغم ذلك فلخبرة السائق حدود أمام عاصفة مطرية كهذه، فلم تكن مجرد ديمة تهطل وتذهب، أو حتى زخات مطر خفيفة بل بات هطول ذاك المطر غزيرا، والرياح لم تكف عن دعمه، ولا زال ينهمر كرماح من السماء، ولَكَم كان صوت اصطدام تلك الرماح على زجاج السيارة مثيراً لرعب كلا الأخوين، مع ذلك لا سبيل لهما إلا المتابعة، فالتوقف أخطر من إكمال القيادة، فالطريق منقطع الخدمات، والشاحنات فيه لا تتوقف، والليل حالك. كان محمد قادراً على رؤية الطريق ولو جزئياً، ولعله آمل أن يستمر ذلك، فشبح اصطدام شاحنة بهم وهم متوقفين لا يكاد يفارق ناظريه، لكنه تفاجأ أن المطر لا يرحم ولا يهتم واشتد انهماره أكثر ناشراً الرعب في قلبي الأخوين، فكأنما قطرات المطر تلك سكاكين تطعنها في صدريهما، ولحظتها أصبح محمد لا يرى، فضياء نور السيارة انعكس على قطرات المطر الكثيفة مما حجب رؤيته، وبذلك اختفى مسار الطريق من ناظريه، نظر الأخوان لبعضهما ولسان حالهما: أيتوقفا في منتصف الطريق؟ وسرعان ما استحضرا شبح الشاحنات في مخيلتهما فتضاءلت هذه الفكرة وتلاشت.

    ضوء بعيد ساطع، وكأنه ضياءٌ في آخر نفق طويل، ذاك الضوء الأصفر الذي طالما كرهه صالح؛ لأنه يضايق عينيه، أصبح مصدر الأمل والراحة الذي حل عليه، فهذا الضوء لمحطة وقود شبه مهجورة فانعطف الأخوان إليها كما يتوجه التائه في الصحراء إلى الدخان، وما إن وصلا إلى ظلال تلك المحطة توقفا تحت مظلة مضخات الوقود وما هي إلا لحظات حتى اشتد المطر فبالرغم من توقفها إلا أن المطر قد أعمى رؤيتهم كلياً، لعلها المرة الأولى التي يرى فيها صالح وعثاء السفر، وكآبة المنظر التي كان يعوذ بالله منها في أدعية سفره. رفع الأخوان أكف الدعاء مترددين في بادئ الأمر بالدعاء لله أن يوقف المطر فلم يظنا يوماً أنهما سيدعوان بتوقف المطر، ذاك الجو الذي يزرع البهجة والسعادة في صدور سكان الصحراء، لكنهما رأيا منه اليوم ما أفزعهما وأشخصهما منه.

    توقف اشتداد المطر أخيراً بشكل يسمح لهما بالاستمرار في الرحلة، وبالفعل توكلا على الله وأكملا الطريق وبعد سويعات وصلا إلى ذلك المسجد، وهنا لقيا والدهما، وكان لقاء والدهما كافياً لإبهاجهما وإعادة الأمل لهما بعد أن قطعا طريقاً أشبه بقطعة من عذاب.

    اتخذ محمد قراره بأن العودة ستكون عبر الطريق السريع، الذي يربط مكة بالرياض حتى، وإن كان ذلك سيأخر عودتهم، مقنعاً والده وأخاه من جحيم ما تذوقه في مسار الطريق القديم، وبذلك انطلقوا نحو الطريق السريع، وما هي إلا لحظات حتى عاد المطر هاطلاً بغزارة، ولكن ذلك لم يخف الأخوان ألجودة الطريق السريع؟ أم وجود والدهما أضفى الطمأنينة عليهم؟

    طريق العودة مضى سريعاً بالرغم من بعده، إلا أن تسامر الأحاديث ورواية المغامرات التي حدثت لكل من الأخوان ووالدهما زرعت في رحلة العودة متعة أنستهم جحيم رحلة الذهاب، فكأنما الساعات أصبحت لحظات، فها هو بيتهم يلوح في الأفق، وما إن وصلوا حتى رفع المنادي أذان الفجر، معلناً الصلاة وقرب شروق الشمس، فتراءى لصالح في مخيلته -وهو يستعد للنوم-خروجهم من منزلهم والشمس في كبد السماء، والآن تلك الشمس التي غابت ستشرق من جديد. يوم كامل قد مضى في هذه الرحلة، فقد استيقظ إلى السيارة وعاد من السيارة.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انتهى عصر البرمجة؟!

دلــــــــــة

تقرير عن معرض المدن الذكية بالعاصمة الرياض 2024

صورتي
صالح الحقيل
المجمعة, الرياض, Saudi Arabia
باحث عن المعرفة، عالم بيانات وقارئ متواضع، وذو قلم كسول. مهتم بالاقتصاد والتقنية. تغريداتي ما هي إلا إنعكاس لآرائي ووجهات نظري الخاصة.